سورة المطففين - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المطففين)


        


{ويل} معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدوم، وقد روي عن ابن مسعود وغيره أن وادياً في جهنم يسمى ويلاً ورفع {ويل} على الابتداء، ورفع على معنى ثبت لهم واستقر وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم: رعياً وسقياً، والمطفف: الذي ينقص الناس حقوقهم، والتطفيف: النقصان أصله في الشيء الطفيف وهو النزر، والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئاً طفيفاً، وقال سلمان: الصلاة مكيال، فمن أوفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين، وقال بعض العلماء: يدخل التطفيف في كل قول وعمل، ومنه قول عمر طففت، ومعناه: نقصت الأجر والعمل وكذا قال مالك رحمه الله: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف فقد جاء بالنقيضين، وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو تجاوز الحد في وفاء ونقصان، والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد وهذا عند جد صحيح، وقد بين تعالى أن التطفيف إنما أراد به أمر الوزن والكيل، و{اكتالوا على الناس} معناه: قبضوا منهم و{كالوهم} معناه: قبضوهم، يقال: كلت منك واكتلت عليك، ويقال: وكلت لك فلما حذفت اللام تعدى الفعل، قال الفراء والأخفش.
وأنشد أبو زيد: [الكامل]
ولقد جنتك أكمؤاً وعساقلاً *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور، وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ويقف على {كالوا} و{وزنوا} بمعنى: هم يخسرون إذا كالوا ووزنوا. ورويت عن حمزة، فقوله: هم تأكيد للضمير، وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع وليس ذلك بالجلي، وصدر الآية هو في المشترين، فذمهم بأنهم {يستوفون} ويشاحون في ذلك، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليها، ثم ذكر أنه إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك بحالة من يخسر البائع إن قدر، و{يخسرون} معدى بالهمزة يقال: خسر الرجل وأخسره غيره، والمفعول ل {كالوهم} محذوف، ثم وقفهم تعالى على أمر القيامة وذكرهم بها وهذا مما يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم من المؤمنين وأريد بها مع ذلك من غبر من الأمة، و{يظن} هنا بمعنى: يعلم ويتحقق، واليوم العظيم: يوم القيامة، و{يوم} ظرف عمل فيه فعل مقدر يبعثون ونحوه، وقال الفراء: هو بدل من {ليوم عظيم}، لكنه بني ويأبى ذلك البصريون، لأنه مضاف إلى معرب، وقام الناس فيه {لرب العالمين} يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، فروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقام فيه خمسين ألف سنة». وهذا بتقدير شدته، وقيل: ثلاثمائة سنة، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر: مائة سنة وقيل ثمانون سنة، وقال ابن مسعود أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون، وقيل غير هذا، ومن هذا كله آثار مروية ومعناها: إن لكل قوم مدة ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك، وروي أن القيام فيه على المؤمن على قدر ما بين الظهر إلى العصر، وروي عن بعض الناس: على قدر صلاة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس، وهو أيضاً مختلف، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر: «أنه يلجم الكافر إلجاماً» ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه وبعضهم إلى فوق، وبعضهم إلى أسفل.


هذه الآية وما بعدها بظهر أنها من نمط المكي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل، و{كلاّ} يجوز أن يكون ردّاً لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحاً بمنزلة ألا، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و{الفجار} الكفار، وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي هنالك كتبوا في الأزل، وقرأ أبو عمرو والأعرج وعيسى: {الفجار} بالإمالة و{الأبرار} [المطففين: 18] بالفتح قاله أبو حاتم، واختلف الناس في: {سجّين} ما هو؟ فقال الجمهور: هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال كعب حاكياً عن التوراة وأبيّ بن كعب: هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: في بر: هنالك وقيل تحت خد إبليس، وقال عطاء الخرساني: هي الأرض السفلى، وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة: {سجين}، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: {سجين}، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: {سجين} نونه بدل من لام هو بدل من السجيل وقوله تعالى: {وما أدراك ما سجين} تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي. وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} من قال بالقول الأول في {سجين} ف {كتاب} مرتفع عنده على خبر {إن}، والظرف الذي هو: {لفي سجين} ملغى، ومن قال في {سجين} بالقول الثاني ف {كتاب} مرتفع على خبر ابتداء مضمر، والتقدير هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو؟ و{مرقوم} معناه: مكتوب، رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى {للمكذبين} بيوم الحساب والدين بالويل، وقوله: {يومئذ}، إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله {كتاب مرقوم} وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه والمعتدي: الذي يتجاوز حدود الأشياء، والأثيم: بناء مبالغة في آثم، وقرأ الجمهور: {تتلى}، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: {يتلى}، بالياء من تحت، والأساطير: جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديماً، قيل هو جمع: أسطار، وأسطار: جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول: {أساطير الأولين}، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد، فإنما يحدثكم ب {أساطير الاولين}، وقوله تعالى: {كلا} زجر ورد لقولهم: {أساطير الأولين}، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان، والعتو، قد {ران على قلوبهم}، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال: رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر: [الخفيف]
ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء ***
والبيت لأبي زيد، وقال الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب، ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى» فذلك الرين الذي قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {بل ران} بإدغام في الراء، وقرأ نافع: {بل ران} غير مدغمة، وقرأ عاصم: {بل} ويقف ثم بيتدئ {ران}، وقرأ حمزة والكسائي: الإدغام وبالإمالة في {ران}، وقرأ نافع أيضاً: بالإدغام، والإمالة، قال أبو حاتم: القراءة بالفتح والإدغام، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك يخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد، و{كلا} في قوله تعالى: {كلا إنهم على ربهم} يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما، والضمير في قوله: {إنهم عن ربهم} هو للكفار، قال بالرؤية وهو قوله أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصص، وقال الشافعي: لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضى، ومن قال بأن لا رؤية وهو قول المعتزلة، قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه، وصلي الجحيم مباشرة حر النار دون حائل، وقوله تعالى: {ثم يقال هذا الذي}، على معنى التوبيخ لهم والتقريع، وقوله تعالى: {هذا الذي كنتم به تكذبون}، مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي يقال، وقوله: {هذا} إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم.


لما ذكر تعالى أمر {كتاب الفجار} [المطففين: 7]، عقب بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق، و{الأبرار} جمع بر، وقرأ ابن عامر: {الأبرار} بكسر الراء، وقرأ نافع وابن كثير بفتحها، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإمالتها، و{عليون} قيل هو جمع على وزن فعل بناء مبالغة يريد بذلك الملائكة، فلذلك أعرب بالواو والنون، وقيل يريد المواضع العلية لأنه علو فوق علو، فلما كان هذا الاسم على هذا الوزن لا واحد له أشبه عشرين فأعرب بإعراب الجموع إذا أشبهها، وهذا أيضاً كقنسرين فإنك تقول طابت قنسرين ودخلت قنسرين، واختلف الناس في الموضع المعروف، ب {عليين} ما هو؟ فقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس: السماء السابعة تحت العرش، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: هو عند سدرة المنتهى، وقال ابن عباس: {عليون}: الجنة، وقال مكي: هو في السماء الرابعة، وقال الفراء عن بعض العلماء: في السماء الدنيا، والمعنى أن كتابهم الذي فيه أعمالهم هنالك تهمماً بها وترفيعاً لها، وأعمال الفجار في سجين في أسفل سافلين، لأنه روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس: أن أعمالهم يصعد بها إلى السماء فتأباها، ثم ترد إلى الأرض فتأباها أرض بعد أرض حتى تستقر في سجن تحت الأرض السابعة، و{كتاب مرقوم} في هذه الآية خبر {إن} والظرف ملغى، و{المقربون} في هذه الآية: الملائكة المقربون عند الله تعالى أهل كل سماء، قاله ابن عباس وغيره، و{الأرائك}: جمع أريكة وهي السرر في الحجال، و{ينظرون} معناه إلى ما عندهم من النعيم، ويحتمل أن يريد ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ينظرون إلى أعدائهم في النار كيف يعذبون»، وقرأ جمهور الناس {تَعرِف} على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح التاء وكسر الراء نضرةَ نصباً، وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب: {تُعرَف} بضم التاء وفتح الراء، نضرةُ رفعاً، وقرأ {يعرف} بالياء، لأن تأنيث النضرة ليس بحقيقي والنضرة النعمة والرونق والرحيق: الخمر الصافية، ومه قول حسان: [الكامل]
يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى يصفق بالرحيق السلسل
و {مختوم}، يحتمل أن يختم على كؤوسه التي يشرب بهما تهمماً وتنظيفاً، والأظهر أنه مختوم شرابه بالرائحة المسكينة حسبما فسر قوله تعالى: {ختامه مسك}، واختلف المتأولون في قوله: {ختامه مسك} فقال علقمة وابن مسعود معناه: خلطه ومزاجه، فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه: خاتمته أن يجد الرائحة عند خاتمته.
الشرب رائحة المسك، وقال أبو علي: المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم، وكذلك قوله: {كان مزاجها كافوراً} [الإنسان: 5]، وقوله تعالى: {زنجبيلاً} [الإنسان: 17] أي يحذي اللسان، وقد قال ابن مقبل: [البسيط]
مما يفتق في الحانوت ناطقها *** بالفلفل الجوز والرمان مختوم
قال مجاهد معناه: طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا، وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في أنهار، وقرأ الجمهور: {ختامه}، وقرأ الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي {خاتمه}، وهذه بينة المعنى: أنه يراد بها الطبع على الرحيق، وروي عنهم أيضاً كسر التاء، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، والتنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه، فكأن نفسيهما يتباريان فيه، وقيل هو من قولك شيء نفسي، فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان إليه، والمزاج: الخلط، والضمير عائد على الرحيق، واختلف الناس في {تسنيم} فقال ابن عباس وابن مسعود: {تسنيم} أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفاً. ويمزج رحيق الأبرار بها، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم، وقال مجاهد ما معناه: إن تسنيماً مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر، وذهب قوم إلى أن {الأبرار} والمقربين في هذه الآية لمعنى واحد، يقال: لكل من نعم في الجنة، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين، وأن {الأبرار}: هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون، و{عيناً} منصوب إما على المدح، وإما أن يعمل فيه {تسنيم} على رأي من رآه مصدراً، أو ينتصب على الحال من {تسنيم} أو {يسقون}، قاله الأخفش وفيه بعد، وقوله تعالى: {يشرب بها} معناه: يشربها كقول الشاعر [أبو ذؤيب الهذلي]: [الطويل]
شربن بماء البحر ثم تصعدت *** متى لجج خضر لهن نئيج
ثم ذكر تعالى أن الأمر الذي {أجرموا} بالكفر أي كسبوه كانوا في دنياهم {يضحكون} من المؤمنين ويستخفون بهم ويتخذونهم هزؤاً، وروي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، وروي أنها نزلت بسبب أن علي بن أبي طالب وجمعاً معه مروا بجمع من كفار مكة، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.

1 | 2